أمستردام – أيمن علام
قد يتهيب السائح زيارة أمستردام بسبب ما يكون قد سمعه عن اختلاف المفاهيم الثقافية حول حضارة المدينة القائمة على التسامح والتآلف ، أو ربما يتأثر الزائر بما يروى من الفضائح التي قام بها (همام) في أحد أشهر أفلامه ، وقد تتحاشى توضيح وجهتك التالية لعائلتك وأصدقائك إن كنت متجها لها و تتمنى أن تجد منشفة "اجتماعيا" تجفف بها عرق الحرج الذي يصيبك عند التخطيط لأخذ عائلتك لزيارة تلك المدينة ، وفي ذهنك الكثير عنها.
عشق يتسلل إلى القلوب
لكن ذلك التردد لن يدوم طويلا بعد نزولك في مطارها (سخيبول) الذي يعد رائعة من روائع المطارات ، وذلك الإحراج سيخبو رويدا رويدا وأنت تمر في تلك الطريق التي تصل المطار بوسط المدينة والمفروشة على جانبيها بسجاد خلاب من حقول زهور التيوليب الملونة بألوان الطيف السبعة والتي تتوسطها طواحين الهواء في منظر أخاذ لا يسعك أمامه إلا التنهد للحظات تدرك خلالها وقبل وصولك إلى قلب المدينة أن قلبك بدأ بالخفقان حبا وبالميل عشقا لمدينة سحرت متذوقي الفن وصناع التاريخ وعشاق الحياة .
مدينة شابة
لعل أول ما تلحظه عيناك عند الوصول إلى محطة القطار الرئيسة (سنترال) الأفواج الهائلة من السواح اليافعين التي يزدحم بها المكان ، ستلاحظ أن المدينة مازالت شابة رغم جذورها الضاربة في أعماق التاريخ ، بقيت فتية على الرغم من وجود أكثر من سبعة آلاف مبنى تاريخي ، متحضرة بذوق رفيع ، حيوية تضج بالحياة في وجوه الشباب الذين يشكلون معظم زوارها ، فنادرا ما تشاهد كبار السن يتجولون فيها ، فهي مدينة حية جدا . يتقدم الانطباع الثقافي التي تقدمه المدينة من (سنتراال) ، ففيها العديد من محلات زهور التيوليب تزيد المكان جمالا و تضيف له رونق المتعة ، فلا تبخل على نفسك وعلى من معك بشراء باقة أو اثنتين من هذه الزهور التي في الغالب قطفت قبل ساعات معدودة فقط وتباع بأسعار تدهش التائقين إليها .
مدينة الدراجات
أمستردام ، وعلى الرغم من أنها العاصمة الرسمية لهولندا ، إلا أن صغر حجمها وطبيعتها التاريخية لم تؤهلها لاحتواء البرلمان الهولندي والموجود في مدينة لاهاي ، أو (دن هاق) كما يلفظها أهل البلد . لا يزيد عدد سكان أمستردام عن المليون يقطنون في مناطق خارج وسط المدينة التاريخي الذي يقارب طول نصف قطره مسافة قريبة جدا إلى الكيلومترين فقط ، مما يجعلنا على ثقة تامة لنقول أنك تستطيع الوصول إلى جميع المناطق السياحية والأثرية والتاريخية و الفنادق في المدينة عند خروجك من (سنتراال) مشيا على الأقدام خلال نصف ساعة فقط .
للمشي معنى آخر في هذه المدينة ، فلا تغرنك الأحذية الهولندية الخشبية الشهيرة وتجعلك تعيد التفكير في ذرع شوارع أمستردام مشيا ، يمكنك أيضا استئجار دراجة في مدينة توجد فيها أكثر من ستمائة ألف دراجة ! حيث تعتبر الدراجة أساسية في الحياة الهولندية و متعتها ، وكما للسيارات عندنا شوارعها ، فللدراجات في هولندا مساراتها المخصصة وقوانينها المحددة وأنظمتها التي يلتزم بها الصغير قبل الكبير ، و رغم انتشارها بشكل كبير إلا أن سوقا سوداء للدراجات هناك تجعلك تحرص على أخذ قفل خاص بدراجتك حتى لا تتعرض للسرقة ، فسرقة الدراجات منتشرة حتى لو أنك لو شاهدت مجموعة كبيرة من الناس يقودون الدراجات و صرخت فيهم : ( هذه دراجتي!!) يقفز خمسة أو ستة منهم من فوقها و يفروا هربا خوفا من أن يكونوا المقصودين!
90 جزيرة صغيرة
بالإضافة إلى الدراجات يسهل التنقل في أمستردام بالترام و المترو والباصات والقوارب وحتى التك تك ، و لن تكلفك رحلة التاكسي أكثر من عشرة يورو بكثير لتوصلك إلى مقصدك في وسط المدينة ، و إن كان عليك الانتباه من أن أمستردام مدينة تحيط بمركزها القنوات المائية من كل مكان و تتكون ذاتها من أكثر من 90 جزيرة صغيرة يصل بينها ما يقارب 400 جسر ، فكثير من شوارعها الصغيرة و أزقتها لا تمر بها السيارات ، ستضطر أحيانا كثيرة للتكفل بسحب حقائبك لمسافة محترمة قبل أن تصل فندقك ختى وإن كنت قد أخذت التاكسي .
البرتقالي سيد الموقف
زيارة ميدان (دام) في وسط المدينة لها متعتها الخاصة ، فالميدان تقام فيه من مواسم إلى أخرى مناسبات و احتفالات ترفيهية مؤقتة وقد تجد حتى مدينة كاملة للملاهي تقام في وسطه صيفا أو حتى شتاء ، تزدان جنباته باللون البرتقالي الذي يمثل السمة الأبرز للألوان هناك فهو اللون الرسمي للدولة و لو قميص منتخباتها الوطنية ، و ستكون سعيد الحظ إن زرت أمستردام بتوافق مع مباراة لمنتخبها لكرة القدم ، فهذا الشعب المحب لكرة القدم سيزين كل شيء باللون البرتقالي بدءاً بالشوارع والمحلات وصولا إلى سيارات الشرطة وملابس الجنود !
تزين جوانب الميدان المقاهي الجميلة والمطاعم على اختلاف مستوياتها واختلاف أنواع الأطعمة التي تقدمها ، و قد تجد الأطعمة الاندنوسية و الهندية و مطاعم الشاورما و الفلافل منتشرة بشكل كبير هناك فلا تستغرب من ذلك حيث أن لهولندا تاريخ في الاستعمار جعلها تستقدم كثير من أطباق الدول التي استعمرتها ، و لكن ، وهنا أتوقف كثيرا ..
لا يمكن للزائر الذي يريد الاستمتاع بأمستردام أن تكون زيارته متكاملة الأركان دون تناول البطاطس المقلية الهولندية البالغة الشهرة كما يسميها أهلها (فرايتس) ، كثير من الأكشاك تبيعها و بمئات الخلطات مختلفة التي تقدم ساخنة ومقلية في الحال تجعل تناول تلك الوجبة في الشارع تجربة ممتعة للغاية .
لا يماثل ذلك إلا روعة الأجبان الهولندية المعروفة مثل (قودا) و (اديم) و التي تقدم خلاصة طعم الأجبان المتميزة تباع في محلات مختلفة ، لا تقلق كثيرا إن لم يمكنك الوقت من زيارتها حيث في خلال رحلة عودتك في المطار الكثير من محلات بيع الأجبان المتميزة لحملها لمن تحب .
متحف لكل شيء
كثرة المتاحف التاريخية في أمستردام جعلتها المدينة الأكثر اكتظاظا في العالم بها ، فهناك متحف من كل شكل و لون ، و لا أبالغ إن قلت أن هناك متحفا لكل شيء ، و أنا أعني كل شيء ، وليفسرها القارئ كما يريد . من أكثر المتاحف التي يجب أن يحرص السائح على زيارتها متحف الرسام العظيم ( فنسنت فن جوخ ) و هو المتحف الذي يحوي في أدواره الأربع معظم أعمال الفنان الراحل الذي قضى عليه الجنون ، وعند زيارتك للمتحف ستدرك أن عبقريا كهذا لا يمكن أن يحمل عقلا كعقولنا بني البشر ، و لا يقلل من قيمة المتحف الفنية عدم وجود لوحة (ستاري نايت – ليلة منجمة) الموجودة في متحف الفن الحديث في نيويورك ، فمتحف الفنان في أمستردام مليء بلوحات دوار الشمس الشهيرة و حقول النرجس التي عرفت عنه و اللواتي بيع بعضها بما يزيد عن سبعين مليون دولار .
و في مقابل هذا المتحف متحف آخر خاص بالألماس يريك كيف يتم إيجاد و تكوين و نحت و قطع أغلى قطعة حجر عرفته البشرية . هناك العديد من المتاحف الأخرى مثل متحف ريكس و منزل آن فرانك و الذي يحمل معنى تاريخيا فهو المنزل الذي كانت تختبيء فيه لكتابة يومياتها المشهورة بغض النظر عن ما جاء فيها ، إلا أن تواجدك في ذات المكان يذيقك بعضا من عبق التاريخ حتى تعيش بعضا مما عاشه من كتب التاريخ ذاته . في أمستردام أيضا متحف صغير خاص بالحشيش و الماريجوانا ، يعرف الناس بشكل تعليمي ممتع فوائد هذه النبتة و سبب استخدامها المسيء لها و يفند الأكاذيب و المغالطات التي يقع الناس فيها بخصوص هذه النبتة . مما يجدر التنبيه له أنك من الممكن أن توفر كثيرا إن اشتريت كارت المرور السنوي الخاص بالمتاحف و الذي يباع عن طريق الانترنت رسميا و في كثير من المناطق في هولندا و الذي يخولك لدخول ما يقارب 400 متحف في هولندا لمدة عام كامل بسعر زهيد يقارب سعر دخول أربعة أو خمسة متاحف منفصلة . سيعيش الأطفال على وجه الخصوص متعة خاصة عند زيارتهم لمتحف (نيمو) الذي يقدم بعرض مشوق تفسير الظاهر الطبيعية و يرد بطريقة جذابة على الأسئلة التي لا ينفك أطفالك عن طرق جمجمتك بها من كيف ؟؟ و لماذا ؟؟ وليش ؟!.
تنقل بالقوارب
و حتى تعيش رحلة جميلة مع المتاحف احرص على أن تتنقل بينها بالقارب الخاص بالمتاحف والذي يتنقل عبر قنوات أمستردام زائرا كثيرا من متاحفي ومتنقلا بطريقة الباصات الذي تشتري له تذكرة واحدة فتركب القارب من من على القناة المواجهة لمحطة القطار الرئيسة و ينطلق بك متوقفا في عدد من المحطات التي يمكنك النزول أو عدم النزول فيها و العودة للركوب مرة أخرى بحرية تامة و بشكل دوري متوالي . التنقل في القنوات بالقوارب جزء لا يتجزأ من أمستردام ، فغير قارب المتاحف هناك قوارب أخرى تطوف بك على المناطق السياحية ، و هناك قوارب خاصة تستطيع استئجارها بشكل منفصل مع أفراد عائلتك على سبيل المثال ، بل و إن كنت تمضي شهر العسل هناك أو أردت أن تعيش جوا رومنسيا خالصا فيمكنك ركوب القوارب الليلية التي تطوف أنحاء المدينة على أضواء الشموع مع تناول طعام العشاء في جو ساحر فاتن تطير معه الساعات قبل الثواني و الدقائق تسطر مع مرورها أبياتا جديدة في قصيدة غزلك لأمستردام.
سيمفونية الربيع
يوجد في أمستردام ما يوجد في جميع أنحاء العالم من أسواق ومحلات لماركات الملابس والمقتنيات الفاخرة ، لذلك فإن تميز هذا المدينة يحتم عليها أن تقدم بعدا آخر للتسوق يتمثل في أسواقها الشعبية التي لا تضايها أي مما تقدمه أي مدينة أخرى ، أشهر هذه الأسواق هو سوق (ألبيرت كوب) الشعبي الذي يبيع الباسطون فيه منتجاتهم اليدوية و منتجات مزارعهم من طعام طازج و مقتنيات و تحف نادرة و كنوز لن تجد لها مثيلا فلا هي من منتجات المصانع و لا من الكماليات التي ستجدها في الأسواق المركزية ، ستصاب بالدهشة من الجاذبية التي تصحبك في جنباته المزدحمة بشكل دائم ، و ستصاب بالذهول من المقتنيات الثمينة و بأسعار في متناولك و تعلم أنك إن أهديتها لأحبائك عند عودتك لوطنك لن يهديهم إياها أحد آخر . و بما أن الشعار الرسمي للدولة هو زهرة التيوليب ، فمن الطبيعي جدا أن تتسوق في سوق أزهارها العائم )بلومنماركت( و الذي سترى فيه عظمة الخالق من ورود لا مثيل لنضارتها و زهور لا تسع الروح أمامها إلا أن تهفهف طربا ، جمال لا يمكن وصفه ، محلان ممتدة لا تنتهي من مختلف أنواع الأزهار و جميع الألوان التي تتخيلها و التي حتى لا يمكن لعقلك تصوره . من الممتع أن تصادف زيارتك فترة الربيع من شهري أبريل و مايو ، فهي أروع فترة يمكن لك زيارة أمستردام فيه لاعتدال الأجواء و احتفالات الملكة بيوم العرش الذي يصاحبها ليلال ملاح من الاحتفالات ، و هي الفترة التي تفتح فيها حدائق (كيوكينهوف) خارج أمستردام أبوابها للزوار و تتفتق فيها أزهار التيوليب بجميع الألوان متفتحة تطرب الناظرين إليها بمقطوعات من موسيقى الوجدان تعزفها ببهائها و تتراقص عليها مع الرياح الربيعية بتموج سيمفوني لا يبدعه إلا بديع السموات والأرض.
——-
مجلة سفاري نت تفتح لك المجال للمشاركة بنشر تجاربك السياحية والتي عشت فيها اجمل اللحظات واحلى الاوقات لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسمك والبلدة وصور بجودة عالية على العنوان البريدي: safari.mag@gmail.com مع ضرورة كتابة عنوان الرسالة باسم مذكرات سائح .