سفاري نت – متابعات
على أطراف السهل الذي تراجعت فيه فلول جيش القائد الفينيقي هنيبعل بعد أن أمطرته جيوش الرومان بالزيت الحارق من أسوار القلاع المحاصرة، تتكوّم بلدة غوبيو (Gubbio) مثل لوحة معمارية بديعة التناسق، كأنها طالعة لتوّها من القرون الوسطى، تذكّرك بأن الجمال في إيطاليا ليس مقصوراً على منطقة أو مدينة دون غيرها، وأنه كالهواء هنا، من لا يتنشقّه يختنق وفقا لموقع دليل المسافر العربي.
تكفي وقفة على أعتاب هذه البلدة لتشعر أنك مُقبلٌ على وليمة دسمة من التاريخ والفنون وحكايات الفرسان والأمراء، في كنف سكينة لا يخدشها إلّا خرير المياه المتهادية في السواقي، ولا يعكّرها سوى طنين الأجراس العتيقة المتأرجحة في أعالي الأبراج التي تناطح السماء.
تقع غوبّيو في إقليم أومبريا المحاذي لتوسكانة التي لا يقلّ عنها جمالاً، ويتفوّق عليها بجودة زيت الزيتون المترامية كرومه في السهول على مدّ النظر. تبعد مسافة ساعتين بالسيّارة من روما، لكنها تنقلك إلى عالم آخر كنت تعتقد ألا وجود له سوى في مخيّلة الرواة وبين دفّات الكتب.
لست بحاجة إلى خريطة تستدلّ بها على شوارعها وصروحها التي تختزن الكنوز والأسرار محفوظة بعناية وشغف منذ مئات السنين، لأنك كيفما اتجهت يطالعك الجمال ويستدرجك الحجر الأنيق إلى التأمّل في مفاتن تتكشّف عن مفاتن، وتغريك بالاستزادة من التاريخ المحفور في كل زاوية من زواياها.
– ميدان سنيوريّا وقصر بريتوريو
على بعد عشرات الأمتار من المدخل الرئيسي القديم للبلدة، ينداح ميدان سنيوريّا الذي لا يرقى إلى مستوى جماله وأناقة معماره في إيطاليا سوى الميدان الرئيسي في مدينة سيينا، الذي يعود تاريخه أيضاً إلى الحقبة نفسها من العصور الوسطى. والميدان كناية عن شرفة لا متناهية تقوم على قناطر حجرية مذهلة التناسق، وتطلّ على الوادي والهضاب الناعمة التي تمتدّ أمامها بِساطاً تتموّج فيه الطبيعة بشتّى الألوان. وعلى أحد جوانب الميدان يقوم قصر «Pretorio» الذي كان مقرّ السلطة الإدارية في القرن الرابع عشر.
قبالته يرتفع قصر القناصل المهيب الذي تقع عيناك عليه أينما وقفت في البلدة التي أصبح اليوم رمزاً لها وشعارها. لكن جمال هذا القصر من الداخل ينسيك روعة بنيانه وهندسته من الخارج، ويدعوك إلى التمتع بالروائع الفنيّة المحفوظة في متحفه، والرسوم الجدارية التي تزيّن قاعاته الفخمة وممراته السريّة، ومعاينة القنوات الدقيقة المحفورة في صخور جدرانه السميكة، التي كانت تستخدم لاستراق السمع من قاعة إلى أخرى. ومن الغرائب الفريدة من نوعها في هذا القصر الذي كان مقرّاً للسلطة القضائية، المراحيض التي تعود إلى القرن الرابع عشر، والتي كان يستخدمها القناصل الثمانية عندما يقضون أشهراً بين جدران القصر لا يخرجون منه منعاً لوقوعهم فريسة الإغراءات والمفاسد.
في الباحات الداخلية لقصر القناصل نوافير المرمر التي ما زالت تأتيها المياه من المجاري نفسها منذ بنائها إلى اليوم، وخلفها قاعة الطعام الضخمة التي تُعرض فيها قطع الخزف النفيس التي كانت تخرج من مشغل المايسترو جورجيو لتزيّن قصور أوروبا في تلك الحقبة.
لكن الدرّة الفنية في قصر القناصل هي الألواح البرونزية من القرن الثالث قبل الميلاد. تحمل منقوشات بالأبجدية الإتروسكيّة، هي الوحيدة في العالم عن تلك الحضارة التي قامت في إيطاليا قبل الحضارة الرومانية، وازدهرت في منطقة توسكانة التي يشتقّ منها اسمها ولا يعرف سوى القليل عنها.
– شارع القناصل
الشريان الرئيسي للبلدة هو شارع القناصل الذي تقوم في وسطه «نافورة المجانين». تقول عنها الأساطير إن من يدور حولها مرّات ثلاث متتالية من غير توقّف… يفقد صوابه. ومن التفاصيل اللافتة في هذا الشارع، أن في الأبواب الرئيسية المؤدية إلى مبانيه أبواباً صغيرة تُعرف باسم «أبواب الموتى»، كانت تُستخدم لإخراج الجثث بسبب من التطيّر والإيمان بالخرافات. لكن الشارع الأجمل هو «via Galeotti»، بقناطره الأنيقة ودوره التي تبدو من مشاهد أفلام القرون الوسطى لولا أنها مأهولة تدبّ فيها الحياة الحديثة بكل مظاهرها.
– القصر الدوقي
من المحطات الأخرى التي لا بد من التوقف عندها أيضاً القصر الدوقي الذي يعود تاريخه إلى عصر النهضة. تضمّ قاعاته الفسيحة مجموعة نفيسة من التحف الفنية أبرزها «مكتب غوبّيو» الذي طلب صناعته الدوق مونتيفلترو من الخشب المطّعم، والذي بيعت قطعته الأصليّة عام ١٩٣٩ لمتحف «المتروبوليتان» في نيويورك حيث يُعرض حاليا، وتُعرض في غوبّيو نسخة عنه طبق الأصل. تجدر الإشارة هنا إلى أن الدوق فيديريكو مونتيفلترو هو نفسه الذي يظهر في اللوحة الشهيرة التي رسمها بيرو دلّا فرنشيسكا، والتي تُعتبر من أهم اللوحات في تاريخ الفن وإحدى مفاخر متحف «Uffizi» في فلورانس.
وإذا قررّت تمضية الليل في غوبّيو واستقبال الشمس الطالعة من وراء الجبل الذي تنام البلدة على سفحه، فليس أفضل من فندق «بارك أوتيل» الذي كان ديراً للرهبان الكبّوشيين في القرن السادس عشر، وتمّ ترميمه وتجهيزه بأحدث وسائل الراحة. تحيط به حديقة غنّاء تنتج الثمار والخضار المستخدمة في تحضير وجبات الزبائن، وتُزرع فيها النباتات العطرية والطبية التي تستخدم لاستخراج العقاقير والمستحضرات الطبيعية بالطرق نفسها التي كان يستخدمها الرهبان في القرون الوسطى.