بيونس آيرس – عمر المضواحي
بل هي أكثر من ذلك بكثير..!.
وباختصار، إذا أردت تجربة رحلة سفر غنية بلذة اكتشاف عالم جديد وبعيد، فضع الأرجنتين على قائمة وجهات سفرك المفضلة.
من المستحيل تلخيص بلاد الفضة (أرجنتينا) التي وصلها المستعمر الإسباني في العام 1526م إلى أن نالت استقلالها في العام 1830م، في رحلة لم تتجاوز 9 ليال وعشرة أيام. لكنها كافية لاكتشاف بعض مكامن فتنتها وسحرها الأخاذ بدء من فنادقها الفارهة وإنتهاء بسلة خيارات سيياحية تمنحك شعورا جديدا كل يوم.
السفر من الرياض إلى هنا قطعة من العذاب مع 24 ساعة طيران على الأقل. لكن وكما يقال دوما لا حلاوة بلا نار. ستجد في استقبالك بواكير شتاء لطيف ينسيك حتما حرارة الصيف العربي اللاهب. ونهارا قصيرا يمنحك ساعات أطول للسهر والمرح في كل الأماكن العامرة بالأنس والحياة المتدفقة وبأسعار مناسبة لكل ميزانية.
بيونس آيرس
تعرف بأنها باريس أمريكا اللاتينية. الحقيقة أن هذا الوصف ضيّق على هذه المدينة التي وضعت لبناتها الأولى على النمط العمراني الإسباني في العام 1880م. فهي تلخصّ وبجدارة أكثر من مدينة عالمية، بكل معالمها وفنونها العمرانية وثقافاتها المتباينة بفضل تمازج عرقها اللاتيني واختلاطه بأصول وثقافات المهاجرين القدماء من معظم بلدان القارة الأوربية.
العاصمة التي اتخذت اسمها من النسيم العليل و "الرياح الطيّبة"، منظمة وأنيقة قادرة على أن تغرق مشاعرك كل لحظة بفيض من المفاجآت غير المتوقعة بين مبانيها الكلاسيكية وأبراجها العصرية. كل أربعة شوارع تنتهي بميدان متوجا بنصب تذكاري يحكي جزءا من تاريخها.
كل الطرقات فسيحة ونظيفة وخضراء دائما. وستدعوك للابتسام وأنت تشاهد جمال رسومات الجرافيك العفوية على كل جدار بعيد عن الأنظار. كما أن سكانها أوفياء للأيقونات الخالدة في تاريخهم الوطني. ستشاهد حتما وبكثرة لافتة تماثيل وصور ورسومات كاريكاتورية لمارادونا وإيفيتا بيرون وتشي جيفارا وآخرون.
تتكئ بيونس آيرس في غنج ظاهر على أعتاب نهر الفضّة (ريو دي لابلاتا) وهو أعرض نهر في الأرض (220كلم). وهو نهر كاف لكل الأنشطة البحرية التجارية والعسكرية والترفيهية للمدينة. تقول لورينا فالي وهي مرشدة سياحية أن خمس المياه العذبة في العالم موجودة في بلاد جبال الإنديز وتجري بوفرة في كل سهولها الواسعة. وأن أخصب أرض وتربة في العالم توجد في الأرجنتين.
في رحلة ضمت فريق لجنة الإعلام السياحي إلى منطقة المزارع المحيطة بشمال العاصمة كانت قطعان الأبقار بالكاد ترى وسط قصب حقول القمح والذرة. تبدو ساكنة في كسلّ باد لا ترفع رأسها عن أرض سخية بالأعلاف والمياه العذبة. من المعروف عالميا أن الأرجنتين تشتهر بألذ اللحوم الحمراء في العالم. كما أن قوائم الطعام هنا متنوعة ولذيذة وسخية جدا وبسعر مقبول. أما طعم الفواكه والخضروات هنا فهي حكاية أخرى. شيء واحد لم يرق للذائقة؛ المخبوزات وبأنواعها. ويبدو أن بلاد الباربيكيو والقمح لم تكتشف بعد ـ في شكل عام ـ المعادلة الصحيحة لعجينة الخبز المثالية.
الليل والنهار
في الثلث الأخير من شهر مايو الماضي، كان فصل الخريف برياحه الخفيفة يلملم بقايا أوراق الشجر المتساقط بلونها الكموني الأخاذ. خلال خمسة ليال كانت بيونس آيرس تستعد لكل مساء برشقة مطر خفيف تغسل الشوارع وتعيد البريق للإسفلت واللمعان لأعمدة الإنارة وجذوع الأشجار استعداد لخروج الأهالي لقضاء أمسيات هانئة. وللجميع مكان يليق به ويضمن له السعادة في جو آمن.
الأرجنتينيون يفضلون الخروج كل ليلة على البقاء في منازلهم. المقاهي والمطاعم ترحب بالجميع دوما على وقع الموسيقى ووشوشات المحبين في أحاديث الأمسيات الهادئة. المسارح وقاعات السينما وأندية الليل وفيرة هنا، كما أن الحدائق المضاءة تفتح ذراعيها لذوي الدخل المحدود ليلا ونهارا.
مع شروق شمس الصباح وطوال ساعات النهار تتفتح على نواصي الطرقات أكشاك بيع الورد والزهور والنباتات الجميلة، وأخرى للصحف والمجلات والكتب، وثالثة للسفونيرات والتذكارات الصغيرة أمام المقاهي ومطاعم الإفطار المشرعة الطاولات والكراسي في الهواء الطلق.
بعد كوب أو اثنين من مشروبك المفضل، لن تعدم خيارا متاحا للقيام بجولات سياحية على المتاحف والأسواق المتنوعة ومدن الملاهي والرحلات البحرية وجولات إكتشاف المدينة بالحافلات المكشوفة. وستجد نفسك تزاحم سير أناس ودودين فوق الأرصفة ومقاعد النقل العام المختلفة. وستلاحظ أن مسحة من الرضا والقناعة تنعكس بابتسامات لذيذة على وجوه الجميع وهم يبادرونك بكلمة بوندياس (صباح الخير).
عالم مجنون
الشعب الأرجنتيني يبدو متطرفا في اغتنام لحظات لذة العيش. يقف دوما على حافة كلّ شيء. ويعيش أيامه وكأنه اليوم الأخير في حياتهم. يدينون بالمسيحية، ويتبعون الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ( وهم فخورين الآن بأن رأس الفاتيكان وبابا روما هو الأرجنتيني خورخي بيرغو غليو) ومع ذلك يجدون متعة خاصة بالحياة على أقصى خطوط التماس، ويعرفون كيف يصنعون لحظات تترنح بين العقل والجنون، الحياة والموت، اللذة والعذاب. يكفيك أن ترى هوسهم الطاغي بالرياضة والموسيقى ورقصة التانغو الشهيرة.
الجنون بعالم كرة القدم هنا قصة معروفة. من لا يعرف بلاد أنجبت مارادونا وميسي؟. في بيونس آيرس فقط 24 فريق كرة قدم. أشهرها بوكا جونيور وريفرت بليت بالطبع الذي حاز على بطولة الدوري هذا العام.
في المقابل، يمكن القول أن ثنائية الموسيقى ورقصة التانغو هي روح الأرجنتين في تلخيص بسيط. رقصة حبّ نبتت قديما بين أقدام الفقراء ذوي البشرة السمراء. وهي لم تك قط ترفا للجميع (كما يحدث الآن) بقدر ما كانت سجلا يحكي جانبا من قصة السكان الأوائل مع الجوع والخوف والحرية. رتم حركاتها السريعة لا يمكن تفسيره بغير رغبة جامحة لعاشقين قررا الهروب (روحيا) من واقعهم البائس. ربما كان شعارهم يومها أن أرض العبودية المؤلمة يمكنك الرقصّ عليها لتشعر لوهلة بالحرية!.
هي إبتداءً وفي النهاية، مثال حيّ لمعنى الشراكة بين رجل وامرأة يجمعهما حب وثقة لا أكثر. ويؤمنان معا أن الحياة أبدا ليست شيئا مفردا، ولا تستقيم بلا شريك يفهم سكناتك قبل حركاتك في احترام متصل. يكفي أن تشاهد عرضا مسرحيا غنائيا راقصا لن تنساه ذاكرتك في قاعة تانغو بورتينو على ناصية ميدان 9 مايو الشهير بمسلته المصرية الشاهقة لتعرف ماذا تعني رقصة التانغو في حياة مجتمع الأرجنتين.
كالافاتي أنف العالم ، فريق لجنة الإعلام السياحي
في مدينة كالافاتي الصغيرة، بمقاطعة بتاغونيا الجنوبية (3 ساعات ونصف بالطائرة) يمكنك أن تمارس كل الرياضات الشتوية اعتبارا من شهر يونيو الجاري. هذه المدينة الصغيرة التي لا يسكنها سوى 18 ألف نسمة في الصيف تكاد أن تكون على حافة الأرض. تبعد نحو 3 آلاف كم فقط عن قارة أنتارتيكا القطبية، وبها متحف تفاعلي كبير عن عالم الجليد، وأسواق شعبية وتقليدية، وأكثر من 25 ألف غرفة فندقية لاستقبال سواح الشتاء.
في منتزه (ناشيونال بارك ديكليشرز) ستقف على واحد من أجمل مناظر الطبيعة في قول واحد. كان رفقاء الرحلة يسألون المرشدة السياحية نتاليا إسكوبار وأسنانهم تصطك من البرّد عما إذا كانت جبال الجليد الذائبة التي يشاهدونها حقيقة أم خدعة فوتوشوب. كانت تضحك وهي تجيب اخلعوا قفازاتكم لتعرفوا الحقيقة.
كانت السفينة تقترب من جبال الجليد التي تتساقط أطنان من حوافها بدوي هائل وساحر في آن على مياه البحيرة المثلجة. ليس هناك على الأرض هواء نقي ومفعم بالأوكسجين كالذي تتنفسه هنا. وسيغمرك شعور طاغ بالزهو أن أنفك المتجمد هو أول من يستنشق الرياح النظيفة القادمة من أقاصي القطب الجنوبي للأرض.
في طريق العودة، ستتذكر دوما، أن الأرجنتين بالفعل، أكثر من مجرد كرة قدم!.