بالصور .. بروج مدينة الرومانسية

محمد الدغيري
بروج مدينة بلجيكية حالمة، تختزن في حاضرها فصول ماض عريق، كتبه الملوك والقادة والرواة، وربما كان العصر الذهبي لها من القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر الميلادي، عندما كانت ميناءًا تجاريًا مزدحمًا، إلا أن هذه المدينة التي تعود إلى العصور الوسطى لا تزال واحدة من أجمل مراكز الثقافة في العالم، والتي حافظت على نسيجها التاريخي حيث احتضنت مياهها مجموعة من المباني القوطية التي تعد جزء من هوية هذه المدينة.

في الطريق قادما إليها من بروكسل، وقبل أن أصلها، صور كثيرة تزاحمت في ذهني، عن لون المدينة ومزاجها وشكل الحياة فيها، عن ناسها وكائناتها، صور وأسئلة متعددة سيجد بعض منها أجوبة عند وصولي لها وبعض آخر سيبقى معلقا.

من المعتاد أن المدن التي لديها نصيب وافر من المياه لديها قدرة على جذب المسافرين لها سواء كانت مطلة على بحر أو يجري بجانبها نهر أو تدلي ساقيها في بحيرة، مما يجعلني أفكر دائما في سر قوة وبسالة المدن الجاذبة للمسافرين دون أن يكون لها نزر يسير من الماء.

فرؤية المياه مبهجة وهواؤها منعش للحس، ولكن الماء في بروج يختلف عن غيرها فهو سر حياتها وبقائها، ولا يكاد ينقطع عنها سبيل السائحين ليلا ولا نهارا، فهي بلا شك مستراض للنفس التي أرهقها كد العمل، وهي أكبر عون للنفس أن تستعيد نشاطها الكامل في أيام قليلة، إلى ذلك يقول عنها أهلها أنها ملتقى المحبين الذين أضناهم مضض الوجد والهوى، حتى آثرها بعض حديثي العهد بالزواج، وبعض الألفين على أهبة الاقتران، لذلك أطلقوا عليها “مدينة الرومنسية”.

انطلقت أتسكع في أزقة هذه البلدة التي يضفي عليها بلاط الحجر رونقا خاصا، بين بيوت أكثرها من طابقين فقط، تتعرش من سقوفها ياسمينات، وتتدلى أصائص الزهور والورود، ويبرز من بين شقوق أحجارها نبتات صغيرة تنتصر برقتها على الصلادة والزمن، أقطع الجسور المترامية على مياهها، بأكثر من ثمانون جسرًا مما يسهل التنقل من فوق قنواتها المائية المنتشرة في كامل البلدة، مما جعل البعض يطلق عليها “فينيسيا الشمال”، أحيي البشر الذين لا أعرفهم ويحيونني ببشاشة ولكأن الضوء المنطلق من الماء يجعل النفوس أكثر صفاء، ولكأنه يمجد أماني المارة ويحرر رغباتهم الخفية، كنت وأنا أمشي البلدة أحاول أن أفهم شيئا واحدا فقط، أن أفهم علاقة الانسان بالمكان، ولم يكلمني أحد غير الحجر والماء، ولم يكشف لي أحد غيرهما سره، وهذا كله جعل البلدة متحفا تراثيا يوقظ التسكع لدى الكثيرين، وهو ما يفسر سبب إدراجها كموقع للتراث العالمي من قبل اليونسكو.

انتقلت لتجربة أخرى في هذه البلدة وهي ركوب القارب الكلاسيكي والذي يعد من أفضل الطرق لاستكشاف هذه البلدة عبر شبكة القنوات المائية، مما أتاح لي رؤية أخرى فريدة من نوعها، ما أجملها فهي حقا تفوق البندقية خفة وروعة، علاقة حسية ربطتني بهذه البلدة منذ الجولة الأولى في أزقتها وقنواتها، أتنفس بهدوء وكأنني كنت أنقي ذهني حتى يصبح بوسعي أن أتأمل في قدرة الخالق وعظمة الانسان، فلا زلت أرى أن أجمل الأماكن هي التي تحتوي على الاثار التاريخية، فهي تجمع عادة بين عبقرية الانسان وعبقرية المكان، فلم تكن مصادفة قط أن يشق الانسان تلك القنوات المائية العجيبة التي تلف ارجاء المدينة، شدتني المنازل الجميلة التي تعلوها سقوف القرميد الأحمر وقد اكتسبت لونا ذهبيا متألقا مع ضوء الشمس والسماء الزرقاء الصافية عند الغروب بعد أن انقشعت عنها السحب، وبين فينة وأخرى تحجبها عنا ظلال الأشجار الكثيفة التي يمر قاربنا من تحتها قبل أن يتوقف بنا في محطته الأخيرة.

على مدار التاريخ كان هناك مسافرون يتخلون عن بطاقة العودة، لأنهم وقعوا في غواية الجميل بمكان ذهبوا إليه ولم يقدروا على مغادرته، ومدينة بروج تدخل فيها فلا ترغب أن تخرج منها أبدا، وتخرج منها وبك شوق آخر للدخول إليها من جديد، تعلق بفضاء جوّال مع أنه ساكن، وبتاريخ ولى مع أنه حاضر فيك.

دخلت بروج وخرجت منها وأنا مسكونا بالأسئلة، كيف تعيش هذه المدينة على الماء، وكيف حافظ أهلها على مدينتهم كما هي، وكيف استطاعوا أن يثبتوها عبر القرون، مدينة الماء والرومنسية والتجارة، دون أدنى شعور برغبة تغيير شيء مما كانت عليه منذ نشأتها، تلك هي معجزة بروج وفضيلة أهلها الكبرى.

*أكاديمي وكاتب في أدب الرحلات

عن فريق التحرير

شاهد أيضاً

نصائح للمسافرين الصائمين خلال شهر رمضان

سفاري نت – متابعات يشعر المسافر الصائم بمزيد من التعب والإرهاق خلال الرحلة السياحية، لذا هناك بعض من الأمور …