د.محمد الدغيري
يروق لي خلال كتابة الرحلات أن أمعن النظر في الخريطة وما كُتب عليها من أسماء، وأتأمل فيما تحمله تلك الأسماء من المعاني والأسرار، فالدول عبارة عن لوحات فنية رُسمت بريشة الانسان الذي علقها على جدران ذاكرة الزمن لتبقى شاهدت على حياته وسيرته حتى شكلت مع الأيام معرضاً مفتوحاً تتأمله الأجيال المتتابعة كلما مرت بجانبه، وتتعاقب عليه السنين لتصبح تلك اللوحات أكثر روعة وقيمة، ومن أجمل تلك اللوحات الفنية لوحة مملكة المغرب التي تفيض بجمال ودفء ألوانها بدء من المناظر الطبيعية الخلابة إلى المناظر المعمارية الجذابة، فهي موطن لمدن وبلدات جميلة، كل واحدة منها لها أسلوبها الفريد وثقافتها وألوانها وروحها التي أضافت إلى البلاد ثراء وتنوع.
ولسبر أغوار هذه المملكة الرائعة والمفعمة بالتاريخ والثقافة تجولت في العديد من مدنها وبلداتها التي تحمل نفس الحجارة إلا أن لمسة الإنسان فيها أعطاها أشكالا مختلفة، فلم أشاهد جدران صماء بل تبوح بأثر الإنسان عليها، إنها حضارات التاريخ وحاضره، فالقديم والجديد قريبان من بعضهما البعض ليس بينهما زمن وسيط سوى حياة الناس، حيث أن أغلب المدن الجديدة أنشأها الاستعمار الحديث بدون أسوار ولا أبواب، أما المدن القديمة فقد حصنت نفسها بأسوار وأبواب وأبراج وكأنها تعيش زمنها الخاص بعيداً عن الزمن الخارجي، وهذا واضح في أغلب المدن كما في كازابلانكا ومراكش وشفشاون، التي تمايزت ألوانها وأبهرت من يراها كفراشات تحت ضوء كاشف، ومنهم المصمم الفرنسي إيف سان لوران الذي قال عن بلاد المغرب عام 1966 “علمتني هذه البلاد الألوان وأصبحت مصدر إلهامي”.
بدأت جولتي من مدينة الدار البيضاء حاضرة المغرب الكبرى والتي تزاوج فيها أنفا التاريخ وغزو الاستعمار الفرنسي بمشاريعه المتغلغلة من مباني حديثة عالية وثقافة أعجمية غريبة هزت صروح المدينة القديمة المثيرة للإعجاب، فبمجرد النظر إلى جاداتها الواسعة ومساجدها الكبيرة يمكنك بسهولة معرفة سبب تسميتها بهذا الاسم الذي اشتق من الكلمة البرتغالية (كازا بلانكا) حين أطلق البرتغاليين عليها هذا الاسم في القرن السادس عشر الميلادي، والتي تعني –كازا- دار و –بلانكا- بيضاء والتي لاتزال تستخدم حتى يومنا هذا.
أن تسافر لعموم مدن المغرب فهذا شيء جميل، ولكن أن تسافر إلى شفشاون خاصة فهذا أمر ساحر الجمال، فلا غرابة فشفشاون يطلق عليها “لؤلؤة المغرب الزرقاء”، فكنت على أبواب المدينة صباح يوم جميل فظهرت مدرجة فوق الربى، فطفت بالسيارة أرجاء المدينة فأخذت بالصعود تدريجيا حتى بلغت القمة وأشرفت على منظر ساحر للمدينة ببيوتها الزرقاء الصغيرة، بعدها نزلت مترجلا أمشي في أزقتها المطلية باللون الأزرق ولا غيره والتي لا تتسع في بعضها لأكثر من شخصين وتكاد شرفات البيوت العتيقة تتساند على بعضها، وكانت دائما تغريني متاهة الشوارع الخلفية حيث الوجه الآخر لأرواح المدن، ممرات مرصوفة وأحواض الزهور المتدلية من النوافذ ومقاهي شعبية جاذبة، لا وجود للسأم في هذه المدينة ولا حاجة لي بالصحبة فبإمكاني الاستماع وحيدا.
ولا تكتمل سلسلة إلهام لوحة الألوان بدون مراكش الحمراء، فحينما اكتسى الأفق ذات يوم بحمرة الشفق، والشمس أصبحت كقرص أحمر كبير، لاحت لي مدينة مراكش بلونها الفاتن، لمحتُ سورها الذي يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، ومن الأفق المفتوح رأيت مآذن مساجدها الشامخة، كما رأيت نخيلها الباسقة على مشارفها وتحيط بها كحزام أخضر، وما يلفت الانتباه من أول نظرة كثرة أسواقها ومعالمها الغريبة وأصواتها وروائحها، فساحة الفنا الشهيرة تختزل تراثا مغربيا حضاريا فريدا من نوعه مما أدى إلى إدراج هذه الساحة في قائمة اليونسكو، فهي عبارة عن نشاط مزيج من عادات وثقافات واعتقادات ومهارات وسلوك، يعرضون أنفسهم للفرجة فتجد نفسك تندفع لهم بدافع الفضول، فبمجرد دخولك هذه الساحة تشعر بأن وظيفتها الحقيقية تتعدى كثيرا البيع والشراء، وأن الحياة البشرية قد تجسدت فيها كمعرض تقام فيه اجتماعات دينية وتظاهرات سياسية ولقاءات بين السحرة ومبادلات ثقافية متنوعة، بالإضافة الى التراث المعماري القديم الذي تم الحفاظ عليه على مدى مئات السنين.
غادرت المغرب ونسيت كل شيء فيها إلا محبتي لأماكنها وأناسها الطيبين، كانت من أجمل اللوحات الفنية التي اقتنيتها في حياتي، بساطة روحها وعذوبة مناخها وراحة إستشعرتها وأنا أجوب شوارعها وحيدا انسقت خلف رائحة التاريخ وأغرقت في تتبع ما خطته الشعوب على تلك الأرض من إشراقات، وخوفا من أن يبرد هاجس المغامرة بدمي قررت الرحيل والبحث عن لوحة فنية أخرى أعلقها في جدار ذاكرتي.
أكاديمي وكاتب في أدب الرحلات